الخميس، 28 أبريل 2011

أعلام المحققين في الهند وجهودهم في نشر التراث العربي الإسلامي للشيخ عزير شمس حفظه الله

بدأَت حركةُ نَشْر التُّراث العرَبِيِّ في الهند مِن أواخر القرن الثَّامن عشر الميلادي، عندما أُنشئت مطابِعُ في مدينة "كلكتا" لطباعة الكتب على الحروف، وكان من أوائل ما نُشر فيها: "السراجية في الفرائض" "للسجاوندي" عام 1793، و"الهداية" "للمرغيناني" عام 1807، و"الفصول الأبقراطية" عام 1832، و"ألف ليلة وليلة" عام 1839 - 1842، و"فِهْرِست الطوسي" عام 1853، و"تاريخ الخلفاء" "للسيوطي" عام 1856، و"الإصابة في تمييز الصحابة" "لابن حجر" عام 1856، وغيرها من أمَّهات المصادر في مُختلِف الفنون، والذين قاموا بتصحيحها والتعليق عليها علماء أجِلاَّء منهم: "مولوي كبير الدين أحمد"، و"مولوي سليمان غلام مخدوم"، و"مولوي عبدالله"، و"مولوي عبدالحق"، و"غلام قادر"، و"محمد وجيه عبدالحق"، وغيرهم.

ثم أُنشئت مطابِعُ عديدةٌ في مدن أخرى بالهند تطبع الكتب على الحجر، مثل مطبعة "نَوَل كِشور" في "لكنو"، و"المطبع الصديقي" في "بوفال"، و"المطبع الشاهجهاني" في "بوفال"، و"المطبع الفاروقي" في "دلهي"، و"المطبع الأنصاري" في "دلهي"، و"المطبع الأحمدي" بـ"دلهي"، و"المطبع النظامي" في "كانفور"، و"المطبع الخليلي" في "آره"، و"مطبعة دار الكتاب والسُّنة" في "أمرتسر"، و"مطبعة نخبة الأخبار" في "بومبي"، وغيرها.

ويَطُول بنا القول لو استعرَضْنا أهمَّ مطبوعاتِها؛ فلِكُلِّ مطبعةٍ منها دورٌ بارز في نشر الكتب العربية الإسلاميَّة في علوم الشريعة، واللُّغة، والأدب، والتاريخ، والطِّب، والفلسفة، وغيرها، وكان يقوم بتصحيحها ومراجعتِها علماء كبارٌ يعتنون بتصحيح المَتْن والتَّدقيق فيه، ويَكتبون في الحواشي تعليقاتٍ تُجلِّي غوامِضَ الكتاب، وتَشرح مَضامينَه، وتحلُّ مشكلاتِه.

وقد اهتمَّت دائرة المعارف النظامية (ثم العُثمانية) في "حيدرآباد" منذ إنشائها سنة 1308 بانتقاء أهمِّ المصادر في مختلِف الفنون، وحصر مَخطوطاتِها وجمع مصوَّراتِها، ثُمَّ القيام بتحقيقها ونشرها بواسطة لَجْنة علميَّة كان يرأسها الأستاذ محمد هاشم النَّدوي، وهو الذي ألَّف "تذكرة النَّوادر"، ووضع برنامجًا للنشر، وجمع العلماء والباحثين من الهند وخارِجَها، واتَّصل بالمستشرقين والمهتمين بالتُّراث العربي.

لقد كانت دائرةُ المعارف أوَّلَ مؤسَّسةٍ عِلمية في الشرق عُنِيَت بنشر عيون التُّراث التي لا تَخلو منها مكتبةٌ عربية في العالَم، ومنشوراتُها موضِعُ ثقةٍ واحترام في الشَّرق والغرب، ولا يَستغني عنها مُحقِّقٌ أو باحث في مَجال الدِّراسات الإسلامية والعربية، وشُهرتُها تُغني عن التفصيل.

ننتقل الآن إلى الجهود الفرديَّة في هذا المَجال، فقد اشتهر في الهِند علماء ومُحقِّقون اشتغلوا بتحقيق التراث العربي، ووقفوا حياتَهم لِنَشره، وغلب عليهم حبه وخدمته، فبذلوا في سبيله كلَّ غالٍ ونفيس، وهؤلاء يزيد عددهم على خمسين عالِمًا، حسب ما تتبَّعتُ آثارهم وتحقيقاتِهم، منهم من اتَّخذ لنفسه منهجًا مستقِلاًّ في التحقيق دون التأثُّر بِمَناهج المستشرقين والعرب، ومنهم من اتَّبع منهج المستشرقين وأضاف إليه بعضَ الأمور، ومنهم من تخرَّج في الجامعات العربية، واتبع منهج التحقيق المتَّبَع فيها.

ويُمكن تقسيمُهم أيضًا إلى مجموعاتٍ حسب العلوم والفنون التي اهتمُّوا بِمخطوطاتِها، فمنهم من اهتمَّ بعلوم الشريعة من الحديث والتفسير والفقه، ومنهم من عُنِيَ عنايةً خاصَّة باللُّغة والأدب والشِّعر، ومنهم من حقَّق كتب التاريخ والفلسفة والطِّب وغيرها.

ولا يُمكن لنا في هذه العجالة أن نستعرض جهود هؤلاء جميعًا في مجال التحقيق، وإنما نقتصر على ذكر أعلام المحقِّقين الكبار الذين دَوَّتْ شهرتُهم في الآفاق، وطار صيتُهم في العالَم؛ لِما قدَّموا إلى المكتبة العربية من جلائل الأعمال في مَجال تحقيق التُّراث العربي الإسلامي، وما قاموا به من خدمةٍ لأمَّهات المصادر وإخراجها إلى النُّور لأول مرة.

وقد وقع اختياري على عشرةٍ منهم، قام بعضُهم بتحقيق كتب الحديث وعلومه، واشتغل بعضُهم بكتب اللُّغة والأدب والشِّعر، وانصرف بعضُهم إلى كتب التاريخ والأنساب وغيرها، وسوف أقتصر على ذِكر أهمِّ الملامح والخصائص لبعض ما حقَّقوه ونشَروه دون استيعاب؛ لعلَّها تكون كافيةً لِمَعرفة ما تَميَّز به كلِّ واحدٍ منهم.

كان العلاَّمة المحدِّث أبو الطيِّب "محمد شمس الحق العظيم آبادي" (ت 1329 هـ/ 1911 م) مِن أوائل مَن اهتمَّ بكتب الحديث، وصرَف أموالاً كثيرة لشرائها، وجمع مكتبة كبيرة تَحتوي على نوادر المَخطوطات، آلَت أخيرًا إلى مكتبة "خدابخش خان" في "باتنه"، وهو الذي نَشَر لأول مرَّة "سنن الدَّراقطني" بتعليقه الذي سمَّاه "التعليق المُغني"، خرج فيه أحاديثَه وتكلم على أسانيدها.

وكان له اهتمامٌ كبير بـ"سنن أبي داود"، فجمَع إحدى عشرةَ نسخةً خطِّية منه، وحقَّقه بالاعتماد عليها، وميَّزَ رواية "اللؤلؤي" للكتاب عن غيرها، بالرُّجوع إلى "تُحفة الأشراف" وغيره من المصادر المخطوطة آنذاك، وكانت نُسَخ الكتاب مُختلِطة، فميَّز بينها، وأثبت الأحاديثَ الزَّائدة مع الإشارة إليها، ثم شرح الكتاب شرحًا متوسِّطًا سَمَّاه "عَوْن المعبود على سُنن أبي داود"، وهو معروفٌ بين طلبة العلم وأهله، وألَّف شرحًا آخَر مطوَّلاً سَمَّاه "غاية المقصود" لَم يُطبع منه في حياته إلاَّ جزء واحد، ونُشِر بعده جزءان آخران، ولو تَمَّ لكان في اثنين وثلاثين جزءًا، وقد نَشر في مقدمة هذا الشَّرح "رسالة أبي داود إلى أهل مكَّة" لأوَّل مرة، كما نشر قطعةً من "مُختصر السُّنن" للمنذري، و"تهذيب السنن" لابن القيِّم بِهامش الشَّرح لأوَّل مرة.

وقد نَشر "العظيم آبادي" كتبًا أخرى بتحقيقه مثل "خَلْق أفعال العباد" للإمام البخاري، و"إسعاف المبطَّا برجال الموطَّا" للسيوطي وبعض رسائل شيخه المحدِّث "حسين بن محسن الأنصاري"، وغيرها، وقد عرَّفتُ بها وبغيرها في كتابي "حياة المحدِّث شمس الحق العظيم آبادي وأعماله"، المطبوع في "بنارس" بالهند.

ومن الذين خدموا كتب السُّنة ونشروها - على قلَّةِ المال والوسائل اللازمة - العلاَّمة المحدِّث عبدالتواب الملتاني (ت 1366 هـ / 1947 م)، وهو الذي نشر ثلاثة أجزاء من "مصنَّف ابن أبي شيبة" لأوَّل مرة، كما حقَّق "مُختصر قيام الليل، وقيام رمضان، وكتاب الوتر"، لـ"محمد بن نصر المروزي" (اختصار "المقريزي")، و"مسند عمر بن عبدالعزيز" للباغندي، و"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم، و"حاشية السندي على صحيح مسلم"، وغيرها من كتب السُّنة التي تقارب عشرين كتابًا، وكلُّها طُبِعَت طبعاتٍ حجريَّة، وقد قام بتصحيحها والتعليق عليها، ونقل فوائد نادرة من كتب الحديث والتاريخ والرِّجال.

أما الشيخ "عبدالصمد شرف الدين" (ت 1416 هـ / 1996 م)، فقد اشتهر بِنَشره "تُحْفة الأشراف" للمزِّي نشرةً علميَّة رائعة في 14 مجلَّدًا، وكلُّ مَن يطَّلع عليه يجد أنه تَميَّز بخصائص لا توجد في الكتب المطبوعة، منها استخدام المحقِّق لنجمة أو نجمتين أو ثلاث؛ لبيان طبقات الرُّواة، وتكبير الحروف وتصغيرها بطريقة معيَّنة، وترقيم كلِّ طرَفٍ ووَضْع رموز كتب الحديث تحته، والإشارة إلى مواضع الأحاديث في كتب السنَّة بذِكْر الكتاب ورقم الباب بين الأقواس في المَتْن، وطبع "النُّكت الظِّراف على الأطراف" لابن حجر في المواضع المنقودة بِهامش الكِتاب، والتعليق على بعض المواضع؛ للتنبيه على خطأ، أو تحريفٍ، أو سقط، وسرد جميع الكتب والأبواب للكتب السِّتة وترقيمها في مجلَّد مستقِلٍّ؛ لتسهيل الرُّجوع إليها، والإحالة عليها.

وفي أثناء القيام بتحقيق ¬"تُحفة الأشراف" بحث عن "السُّنن الكبرى" للنَّسائي، الذي اعتمده المزِّي دون الصغرى، فجمع نسخه الخَطِّية، وقام بتحقيقه، ونشر ثلاثة مجلدات منه لأول مرة.

وللشيخ "عبدالصمد" عنايةٌ خاصَّة بكتب شيخ الإسلام "ابن تيميَّة"، فهو الذي نشر لأوَّل مرَّة "الردُّ على المنطقيِّين"، و"مَجموعة تفسير شيخ الإسلام لستِّ سور"، و"قاعدة في أنواع الاستفتاح في الصَّلاة"، وعلَّق عليها تعليقاتٍ دقيقةً تدلُّ على اهتمامه بتراث الشيخ، وتَحقيق الموضوعات التي تناولَها، أَذكُر منها تعليقًا يتعلَّق بكسوف الشمس، حيث ردَّ شيخُ الإسلام على الواقديِّ ومَن تابعه مِن الفقهاء في تاريخ الكسوف في عهد النبِيِّ - صلى الله عليه وسلَّم - عند موت ابنه إبراهيم، وذكر أنَّه مبنيٌّ على الحساب عند الفلَكيِّين، فلا يُوثق بما يُخالف حسابَهم، فرجع المحقِّق إلى أحد الهندوس المتخصِّصين في علم الفلَك، وطلب منه أن يستخرج بالحساب تاريخَ الكسوف في عهد النبِيِّ - صلى الله عليه وسلَّم - فأظهر له بعد العمَلِيَّة الحسابية ما كان فيه ردٌّ على الواقدي ومَن تابعه، وتأييدٌ لما ذكَره شيخُ الإسلام.

ومن المحقِّقين الكبار الذين خدموا السُّنة: العلاَّمة المحدِّث "حبيب الرحمن الأعظمي" (ت 1412 هـ / 1992 م)، فقد حقَّق مجموعةً من أُمَّهات كتب الحديث، وعلَّق عليها تعليقاتٍ مفيدةً، منها: "مسند الحُمَيدي"، و"السنن والآثار" لسعيد بن منصور، و"مصنَّف عبدالرزَّاق" في 11 مجلدًا، وأربعة أجزاء من "مصنف ابن أبي شيبة"، و"الزهد والرقائق" لابن المبارك، و"المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية العالية" لابن حجر، و"كشف الأستار عن زوائد مسند البزَّار" للهيثمي، و"تتمَّة جامع الأصول" لابن الأثير، وهي الفَنُّ الثالث من الكتاب الذي لم يكن منشورًا.

ومما يُذكر عن اهتمامه بكتب الحديث وحرصه عليها وشغَفِه بِها: أنه وجد عند أحدٍ مخطوطةَ كتاب "كشف الأستار" (المكتوبة سنة 780 هـ)، فبذل له ما طلب من المال، واشتراه منه، كما عثر على نسخة خطِّية من "مسند الحارث بن أبي أسامة" الأصل في بلاد الهند، فنسخه ليحقِّقه، وحالت وفاتُه دون إخراجه.

ومنهجه في التحقيق والتعليق يتلخَّص في أنه يُثْبِت النصَّ في ضوء النُّسَخ المتوفِّرة لديه مع مُراجعة المصادر الأخرى، ويخرِّج الأحاديث والآثار تخريجًا مُختصرًا، ويشير إلى المصادر والكتب بالرموز، وينبِّه على بعض الأوهام والأخطاء باختصار، ولا يُثبت من الفروق بين النُّسَخ إلاَّ المهمَّ منها، ويجتهد في تصحيح الأخطاء وإكمالِ النَّقص؛ لتستقيم العبارة، ومع ذلك فقد بقيت في بعض الكتب التي حقَّقها أخطاءٌ في الأسانيد والمتون؛ بسبب رَداءة النُّسَخ التي كانت متوفرةً لديه، وخاصَّة في "مصنف عبدالرزاق" و"مسند الحميدي"، وقد استدرك بعضَ الأخطاء عندما وصلَتْ إليه صورةٌ من نسخة الظَّاهرية القديمة من "مسند الحميدي"، فألحق بالكتاب تصحيحها، ولكنه لم يتمكَّن من استدراك جميع الأخطاء، وتغيير التعليقات التي تمَّ تنضيد حروفها من قبل، وهو معذور في ذلك ومأجورٌ - إن شاء الله.

خامس هؤلاء الأعلام: الشيخ "أبو الوفاء الأفغاني" (ت 1395 هـ / 1975 م) الَّذي استقرَّ في "حيدر آباد"، وأنشأ "لجنةَ إحياء المعارف النُّعمانية" فيها؛ لِنَشر تراث أئمَّة الحنفيَّة الأوائل، ومن أهمِّ الكتب التي حقَّقها ونشرها: كتاب "الآثار"، و"اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى"، و"الرد على سِيَر الأوزاعي" - الثلاثة لأبي يوسف.

وكتاب "الآثار" وكتاب "الأصل" كلاهما لِمُحمَّد بن الحسن الشيباني، و"مختصر الطحاوي"، و"أصول السَّرَخسي"، و"شرح كتاب النفقات" للخصاف (تأليف الصدر الشهيد).

ومنهجه في التحقيق: أنه يأتي إلى الأحاديث والآثار والمسائل، فيخرِّجها من بطون الكتب والمصادر، وينقل نقولاً مطوَّلة منها، وقد أطال جِدًّا وأفاد في تعليقه على كتاب "الآثار" لمحمد، وكتاب "الأصل" له، فلم يتمكَّن من إكمال تحقيقهما على هذا المنوال.

وقد قدَّم لهذه الكتب التي حقَّقها مقدِّمات طويلةً، بيَّن فيها مكانتها وأهميتَها، وترجم لمؤلِّفيها، ووصف النُّسَخ الخَطِّية التي اعتمد عليها، ومِمَّا يُؤخذ عليه أنَّه استَلَّ كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" و"الرَّد على سير الأوزاعي" من كتاب "الأُمِّ" للشافعي بِحَذف ردِّ الشافعي على أبي يوسف، دون الإشارةِ إلى ذلك، ولم يذكر في المقدِّمة نُسَخَها الخطية؛ فإنَّه لا وجود لها في مكتبات العالَم، والأمانة العِلميَّة تقتضي التصريح بأنَّهما مأخوذان من كتاب "الأم"، وتقتضي إثباتَ تعقيبِ الشافعي على مسائل الكتابَيْن، ثم مناقشته في الحواشي.

نكتفي بِهَؤلاء الأعلام الخمسة في مجال الحديث والفقه، وننتقل الآن إلى خمسةٍ آخرين اشتهروا في مجال اللُّغة، والأدب، والتاريخ، والأنساب، وما إليها، وهم: العلاَّمة "عبدالعزيز الميمني الراجكوتي" (ت 1398 هـ / 1978 م)، والعلامة "محمد بن يوسف السورتي" (ت 1361 هـ / 1942 م)، والأستاذ "امتياز علي عرشي" (ت 1401 هـ / 1981 م)، والدكتور "محمد حميد الله" (ت 1423 هـ / 2002 م) والأستاذ الشيخ "أبو محفوظ الكريم المعصومي" (ت 1430 هـ / 2009 م).

أما "الميمني": فهو معروفٌ في الأوساط العلميَّة بأبحاثه وتحقيقاته، وقد حقَّق ما يُقارب ثلاثين كتابًا ورسالة في اللُّغة والأدب وغيرهما، ونبَّه على نوادر المخطوطات الموجودة في مكتبات الهند وتركيا والبلاد العربية التي زارها عدَّة مرات.

وأهَمُّ أعماله: تحقيقه لكتاب "اللآلي شرح أمالي القالي" لأبي عبيد البكريِّ بتعليقاته التي سَمَّاها "سمط اللآلي"، وهو "الكتاب الذي لا يُدانيه كتابٌ في التحقيق" كما قال العلاَّمة "محمود محمد شاكر"؛ وذلك لأنه خرَّج فيه الشِّعر تخريجًا علميًّا دقيقًا مع ذكر اختلاف النِّسبة والرواية، وحقَّق أنساب الشُّعراء وغيرهم، مع ذِكْر مصادر ترجمتهم، وبيان ما فيها من أوهامٍ، وأشار إلى مصادر الأخبار، والقصص، والأيَّام، والأمثال، وناقش "البكريَّ" في كثيرٍ مِمَّا ذكَره، ودافع عن "القالي" بالحُجج والبراهين.

وفي تعليقاته فوائد علميَّة كثيرة أخرى ليس هذا مكان استقصائها، ومِمَّا يدلُّ على تَمكُّنه في اللغة والأدب أنه ذَيَّل على كتاب "اللآلي"، فشرح على منواله "ذيلَ أمالي القالي" و"صلةَ الذيل" في آخر الكتاب؛ لأنَّ البكريَّ لم يشرح إلاّ "الأمالي"، ثم صنع لـ"سمط اللآلي" فهارس على غرارٍ مبتكَر مفيد، تكشف عمَّا فيه من الشِّعر والشُّعراء، والتراجم والأمثال.

وثاني أعماله بعد "سمط اللآلي": تَحقيقُه لكتاب "التنبيهات على أغاليط الرُّواة" لعلي بن حمزة البصري، الذي ناقش في تعليقاته آراء المؤلف، وردَّ عليها، وكان حَكَمًا في القضايا التي اختلف فيها اللُّغويون، واحتجَّ لِما ذهب إليه، وأورد من الشواهد والحجج ما يُقنع الباحث المنصِف، وعمل للكتاب فهارس معقَّدة؛ لئلاَّ يستولي عليها الأغرارُ كما فعلوا مع فهارس "السمط"، فاستخرجوا الفوائدَ المنثورة في تعليقاته بواسطتها دون الإشارة إليها، وهذا ما جعل المحقِّق يَعزف عن صنع الفهارس الميسَّرة.

ومن الكُتُب التي حقَّقها ونشرها: "ديوان حميد بن ثور الهلالي"، و"ديوان سحيم عبد بني الحسحاس"، والقصائد والدواوين المجموعة في "الطَّرائف الأدبية"، و"الفاضل"، و"نسب عدنان وقحطان"، و"ما اتَّفق لفظه واختلف معناه" الثلاثة للمبرِّد، وجمعَ زيادات "ديوان شعر المتنبي" وفائِت شعرِ أبي العلاء.

وقد جمعت بحوثه وتحقيقاته ونقده للكتب والمطبوعات في كتاب "بحوث وتحقيقات للعلاَّمة عبدالعزيز الميمني" نشرَتْه دار الغرب الإسلامي في بيروت.

وأما العلاَّمة "السورتي": فقد كان من زملاء "الميمني" في الدِّراسة والتحصيل، وربما يفوقه في معرفة الحديث والرِّجال والأنساب، وكان يَحفظ مثل "الميمني" ما يقارب مائتي ألف بيت من الشِّعر، واشتغل بِنَسْخ المخطوطات، وجمع نوادر الكتب ودراستها، وقد حقَّق "جَمهرة اللُّغة" لابن دُرَيد، و"الأفعال" لابن القطاع، و"الكفاية" للخطيب البغدادي، وكلُّها منشورةٌ بدائرة المعارف العثمانيَّة.

ورأيتُ بِخَطِّه "جوامع السيرة" لابن حزم، وغيرَه من الكتب، وكان عنده "الإكمال" لابن ماكولا و"جمهرة أنساب العرب" لابن حزم، ومصادِر أخرى استفاد منها في نَقْده اللاَّذع لـ"سمط اللآلي" بعد صدوره، فانبرى للردِّ عليه "الميمني"، ومع ذلك فقد اعترف ببعض الأوهام والأخطاء التي وقع فيها.

وقد توُفِّي العلاَّمة "السورتي" في "علي كره"، وعاش بعده "الميمنِيُّ" أكثرَ من ثُلث قرن، وكان أحيانًا يَمرُّ بقبره مع بعض تلاميذه، فيقول: "هذا قَبْر جبَلِ العلم"، وفي هذا اعترافٌ كبير بعلمه وفضله - رَحِمَهما الله رحمةً واسعةً.

وأما الأستاذ "امتياز علي عرشي": فهو من تلاميذ "الميمني"، وكان مديرًا لمكتبة رضا الشهيرة في مدينة رامفور، قام بفهرسة مَخطوطاتِها، واطَّلع على النوادر الموجودة فيها، فكتب مقالاتٍ وأبحاثًا في التعريف بها ودراستها في المجلاَّت العلميَّة باللُّغة الأُردية، واشتهر في الأوساط العلميَّة في البلاد العربية بعدما حقَّق "تفسير سفيان الثَّوري"، ونشَره نشرًا علميًّا ممتازًا، بالاعتماد على نسخةٍ فريدة منه عثر عليها في مكتبة رامفور، وهو من أقدم كتب التَّفسير الَّتي وصلَتْنا، عكَف عليه المُحقِّقُ فترةً، وقام بتخريج الروايات والآثار، وترجم للمؤلِّف ترجمةً مفصَّلة، وحقَّق نسبة الكتاب إليه، وترجم لجميع الرِّجال المذكورين في الكتاب، مع ذِكْر المصادر المطبوعة والمخطوطة "التي تزيد أحيانًا على خمسين"، مرتَّبةً على التاريخ، وألحق هذه التراجم بآخر الكتاب مُرتبةً على الطبقات.

ومن الكُتُب الأخرى التي حقَّقها: "ديوان أبي محجن الثقفي"، و"ديوان الحادرة الذبياني"، و"الأجناس من كلام العرب" لأبي عبيد، و"الأخبار" للجاحظ، و"مرسوم الخط والمقطوع والموصول" لابن الأنباري، و"الأمثال السائرة من شعر المتنبي" للصاحب بن عبَّاد، وبعض هذه الطبعات غير معروفةٍ في البلاد العربيَّة، وتظهر أهميتها بمقارنتها مع الطبعات المتداولة؛ فقد كان الأستاذ "عرشي" دقيقًا في إثبات النصِّ، والتعليق عليه، وعمل الفهارس اللاَّزمة، ويقوم أخونا المحقِّق الفاضل الدكتور/ "محمد أجمل الإصلاحي" بِجَمْع بحوثه وتحقيقاته المتناثرة؛ ليستفيد منها الباحثون في البلاد العربية.

والدكتور "محمد حميد الله": أشهر من أن يُعرَّف به، وقد كان مولعًا بالبحث عن نوادر المخطوطات في مكتبات تركيا وأوربا، وهو الذي اكتشف نسخة "السُّنن والآثار" لسعيد بن منصور، وحقَّق "صحيفة هَمَّام بن منبِّه عن أبي هريرة" من أوائل ما دُوِّن في علم الحديث. وحقَّق القطعتين الموجودتين من أصل "سيرة ابن إسحاق".

ومن الكتب التي حقَّقها: الجزء الأول من "أنساب الأشراف" للبلاذري، و"الذَّخائر والتحف" للرشيد بن الزبير، و"معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر" لنعمان بن محمد، وشارك في تحقيق كتاب "الأنواء" لابن قتيبة، و"المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحُسَين البصري، و"المُحبَّر" لمحمد بن حبيب، وجمع النصوص الباقية من الجزء المفقود من كتاب "النبات" لأبي حنيفة الدِّينَوَرِي من مصادر مختلفة، أهمها "تاج العروس" للزبيدي.

كان الدكتور "محمد حميد الله" يهتمُّ بتحقيق النصِّ وضَبْطِه، مع الإشارة أحيانًا إلى بعض المصادر الأولى التي تَذكر الأخبار أو الموضوعات التي يَحويها الكتاب، ولا يتوسَّع في ذلك، وكان جلُّ هَمِّه أن يُخرج الكتاب إخراجًا سليمًا، ويُستثنى من ذلك كتابه "مجموعة الوثائق السياسية"، فقد استقصى فيه بعدَ كلِّ وثيقة ذِكْر جميع المصادر المخطوطة والمطبوعة، بالعربيَّة والفارسية والأردية واللُّغات الأوربية، وحَصْر جميع الفروق الدَّقيقة والجليلة فيها، مع ذِكْر الدراسات والبحوث المتعلقة بالوثائق، وهذه المجموعة لا نظير لها فيما جُمع ونُشر من كتب الوثائق الإسلامية، فهو الذي فتح هذا الباب، ثم ولجه الناس، وأقوم الآن بجمع بُحوثه ومقالاته بالعربية، يسَّر الله إتمامه.

وخاتمة هؤلاء الأعلام: العلاَّمة الشيخ "أبو محفوظ الكريم المعصومي" الذي قام بنشر بعض النُّصوص النادرة مثل ديوان "الرستميات" و"شرح الألفات" لابن الأنباري، و"مسألة صفات الذَّاكرين والمتفكِّرين" لأبي عبدالرحمن السلمي، وبعض رسائل "مرتضى الزبيدي البلكرامي"، إلاَّ أنه اشتهر بالاستدراك والنَّقد لبعض الدَّواوين وكتب التراث التي حقَّقها مشاهير المُحقِّقين، فهو بِهذا قد شاركهم في تحقيقها وتقويم أودها، ومن أهمِّ هذه الاستدراكات والتصحيحات نقده لثلاثة أجزاء من "سِيَر أعلام النُّبلاء" للذَّهبِي بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، ونقده لـ"سمط اللآلي" و"ديوان حميد بن ثور الهلالي"، وقصيدة العروس (كلها بتحقيق العلامة "الميمني")، ونقده لـ"ديوان ابن الدمينة" بتحقيق الأستاذ "أحمد راتب النفاخ"، و"ديوان جميل بثينة" بتحقيق الدكتور "حسين نصار"، و"ديوان بشر بن أبي خازم" و"ديوان ابن مقبل" (كلاهما بتحقيق الدكتورة/ "عزة حسن").

وكان للأستاذ "المعصومي" فضْلُ السَّبق إلى التعريف بمخطوطة "التعليقات والنوادر" لأبي علي الهجري (نسخة الجمعية الآسيويَّة في كلكتا)، وشكر له العلامة "حمد الجاسر" هذا الصنيع، واعترف له بالفضل، وقد فرغ أخونا المُحقِّق الدكتور "محمد أجمل الإصلاحي" من جمع بحوثه ومقالاته في مجلَّدين نشرا من دار الغرب الإسلامي ببيروت، فجزاه الله خيرًا.

هذا استعراضٌ سريع لما قام به أعلامُ المُحقِّقين في الهند في مجال تحقيق التراث ونَشْرِه، وقد خلَتِ البلادُ الآن من أمثال هؤلاء العلماء، والمرجو من الجامعات ومراكز البحوث أن تُكَثِّف جهودَها لتدريب الطُّلاب والباحثين على تحقيق المخطوطات ونشرها، وفهرسة ما تناثَر منها، والتعريف بها ودراستها، وترجمة المهمِّ منها إلى اللُّغات الهندية والأوربِّية، وتخصيص مِنَح دراسية لمن يقوم بتحقيق مؤلَّفات العلماء الهنود باللُّغة العربيَّة عبر القرون، وتعريب ما ألَّفوه بِغَيرها.

وفَّقنا الله جميعًا لخدمة ديننا وتُراثنا، إنَّه سميع مجيب.
المصدر: http://www.alukah.net/Culture/0/30573/