الخميس، 14 يونيو 2012

شرح الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت...)

بسم الله الرحمن الرحيم


قال الإمام البخاري رحمه الله- في صحيحه([1]):

71 - بَاب قَوْلِهِ تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 17
4501 - حدثنا عَلِيُّ بن عبد اللَّهِ حدثنا سُفْيَانُ عن أبي الزِّنَادِ عن الْأَعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- قال قال الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ"، قال أبو هُرَيْرَةَ: اقرؤوا إن شِئْتُمْ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.

هذا الحديث من الأحاديث القدسية المتفق على صحتها، وقد ورد في أكثر دواوين السنة([2]) .


وأخرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع من صحيحه ([3])(1) بأسانيد مختلفة مطولاً ومختصراً حسب الحاجة كما هو صنيعه رحمه الله-، أوفاها سياقاً ما أورده هنا في كتاب التفسير في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 17، وهذا الموضع هو الأنسب له لأنه ما من طريق إلا وفي آخره ذكر هذه الآية مما يؤكد أن الحديث ورد تفسيراً لما في الآية الكريمة، وقد ورد في الرواية الثانية جملة (ثم قرأ) التي تدل على أن قراءة الآية ليست من قول أبي هريرة رضي الله عنه - وإنما وردت مرفوعا([4]).

واللافت للنظر أن صياغة الآية والحديث تتشابه إلى حد كبير، فقد جاءت النكرة في سياق النفي في كلا الموضعين، واستخدمت (ما) وسيأتي الحديث عن نوعها- كذلك في الموضعين، إلا أن الفرق عظيم جداً بينهما، ففي الآية إيجاز شديد مع تراكم المعاني والمدلولات والإيحاءات، بينما كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم- مع ما فيه من الإتقان والإيجاز والإحكام والسداد لا يداني الكلام الصادر عن عزة الربوبية، مع أن الغرض العام واحد في كلا الموضعين وهو وصف الجنة بأبلغ أوصافه.


وبيان ذلك أن الآية نفت العلم إطلاقاً، وصرّحت بأن ما أخفي لهم لا يمكن الاطلاع عليه، والحديث نفى طريق حصول العلم بالتفصيل، ومفاده أن وصفها خارج من مدركات العقول؛ لأنها "منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركِّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات ... وكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر"([5]).

ونلاحظ أن الآية أوجزت في بيان المقصود إيجازاً شديداً مع وضوح القصد فإنها نفت العلم -وهو الجهل بأوصافها- مع التصريح بأن المخفي من أنواع المسرّات {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 17، وهذا ما لا نجده في الحديث، ثم إن لكل منهما سياقا خاصًا فإن الحديث قد ورد في سياق الامتنان بذكر ما أعده الله لعباده الصالحين، فبدأ الحديث بصيغة المبني للفاعل "أعددت"، ثم بني الكلام عليه، بينما نرى أن الآية سيقت لبيان جزاء أعمال معينة وصفات محمودة اتصف بها بعض عباده، فإنها مسبوقة بالكلام عن الكافرين والمجرمين ووصف حالهم يوم البعث


والنشور ثم بالحديث عن الذين لا يستكبرون وإذا ذكّروا بآيات ربهم خرّوا سجّدا ومَن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ففي سياق الآية ذمّ الاستكبار والتعالي والجحود ومدح صفة الخضوع والتذلل والعبادة في خفاء، ولا يخفى أن بين صفة الخضوع والتواضع وبين الاستتار بالعبادة نوعًا من الترابط، وفي اسم السورة أيضاً- إشارة إلى هذا الجانب، كما أن الائتلاف بين هذه السورة والسورة التي قبلها -وهي سورة لقمان يظهر -جليًّا- في هذا الجانب؛ فليلاحظ المناسبة بين قوله في آخر سورة لقمان {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} لقمان: 32، وبين قوله هنا في سورة السجدة قبل الآيتين من الآية المبحوث عنها {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} السجدة: 15.

وكان مقتضى هذا السياق أن يوصف جزاؤهم بالوصف الذي هو من جنس عملهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فإنهم لما أخفوا أعمالهم من الخلق وعاشوا متواضعين خاضعين لله أخفى الله جزاءهم من الخلق كلّه وادّخر لهم إلى يوم يلقونه، قال الحسن البصري رحمه الله-: " أخفى قوم عملهم، فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر([6])".


والطريف أن في كلا الموضعين استخدمت "ما" وهي التي تقع على ذوات ما لا يعقل، وعلى صفات من يعقل، دون "من" التي تختص بالعقلاء، ولا تنفرد لغير العقلاء. لأنها أكثر إبهاماً من "مَن" وأوسع استعمالاً منها، قال سيبويه: " و (من) وهي للمسألة عن الأناسيّ ويكون بها الجزاء للأناسيّ، وتكون بمنزلة (الذي) للأناسيّ. و (ما) مثلها إلا أن (ما) مبهمة تقع على كل شيء"، وهي تحتمل في الحديث الموصولة والموصوفة ([7])، وفي الآية الموصولة والاستفهامية ([8])(2)، وهذه الأنواع كلها تشترك في الإبهام والعموم والشمول. وهذا الاحتمال يوسّع دائرة المعاني والدلالات، ففي الحديث مثلاً- لو قلنا بأنها موصوفة فإنها تكون نكرة بمعنى (شيء)، ولو قلنا بأنها موصولة فإنها تكون معرفة بمعنى (الذي). والتعريف بالأسماء الموصولة من أهم طرق التعريف، وهي شائعة في الحديث النبوي الشريف بحيث تعدّ ظاهرة من ظواهره المميّزة، وفي الكلام عموماً، لأنها مفردة متضمنة الجمل، فتتسع دائرتها لتشمل أكثر أحوال المعارف وتفسح المجال لتلوين الكلام، والتنوع في التعبير بواسطة الصلة حسب السياق ومتطلبات المقام، فتؤدي أغراضاً بلاغية عديدة، منها التعظيم والتفخيم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم- (ما لا عين رأت ... )، فقد أبهم أمرها بالموصول الذي يأتي للإبهام الشديد، ثم جاء بالنكرة في سياق النفي للدلالة على العموم والشمول والاستغراق في النفي حتى لا يخرج فرد من أفرادها.


من هذا الحكم الكلي المنطبق على كل فرد من أفرادها، ليذهب ذهن المخاطب كل مذهب في محاولة تصورها ومعرفة كتهها مستشعراً بعظمتها البالغة منتهاها، ثم يرجع متحسّرا إلى ما كان عليه، لأن الطريق مسدود من كل جانب، فلا مشاهدة ولا سماع ولا تخيّل، فإن الأفهام لا تبلغ كنهها ولا تفاصيلها لعظمتها المتناهية ومن هنا تتشوق النفوس إليها، وتسعى جاهدة للحصول عليها، وقد استشكل شراح الحديث هذه الرواية التي تنفي إدراك كنه هذه الجنة بأي طريق كانت، بأن هناك روايات تدل على أن جبريل رآها ([9])، ثم حاولوا التوفيق بينهما([10])، لكن لا يبدو لي وجه الإشكال في الحديث فإن الكلام هنا حول جنة معينة وليس على الجنة مطلقاً، فقد ورد في رواية مسلم ([11])ما يفيد أن المقصود هنا الجنة التي أعدها الله بيده خاصة للمقرّبين إليه تكريماً لهم، وورد في الآية الكريمة {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} السجدة: 17، فكلمة (لهم) صريح في أنها أعدّت لمن كان على الأوصاف المذكورة في الآية، وأما


الحديث فإنه أكثر صراحة من الآية فقد جاء فيه (أعددت لعبادي الصالحين) والإضافة في (عبادي) للتشريف([12])، وفي رواية أخرى عند البخاري([13]):
عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- عن النبي -? -يقول الله تَعَالَى: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ ما أُطْلِعْتُمْ عليه ثُمَّ قَرَأَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
قال الشراح ([14]) إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم-: " بَلْهَ ما أُطْلِعْتُمْ عليه " أي: سوى ما أطلعتم عليه، أو دع ما أطلعتم عليه وأنه سهل يسير في جنب ما ادخرته لهم، أو أن الذي غيّبته عنكم فضل ما أطلعتم عليه منها.
والذي فهمته من النصوص ومن كلامهم حولها أن جميع هذه المعاني تدور على محور واحد وهو أن هذه الجنة غير الجنة التي أُخبرنا عنها، وبعد فلا يظهر لي وجه إشكال في النصوص والله أعلم-.

وفي الحديث ما يسمى بـ"مراعاة النظير" عند البلاغيين ([15])، فقد جمع فيه بين العين والأذن والقلب وبين الرؤية والسماع والخطر، وهذا في غاية التناسب والتلاؤم،
والجمل في الحديث الشريف غالباً ما ترد بهذا النسق متناسبة متلائمة حسب السياق موافية للغرض المطلوب، تابعة للمعنى المقصود.
ومما زاده جمالاً وبهاء ورونقاً إضافة إلى ما سبق- هو هذا "التقسيم" ([16]) البديع الذي حصر المعنى من جميع الجهات حتى لا ينفلت فرد من أفراده حيث حصر جميع مدركات العقول في جملة صغيرة، فلم يبصر ذاته عين، ولا سمعت وصفه أذن، ولا خطر ماهيته على قلب، وقد سبق بيان ذلك.
وبديع في هذا الحديث الشريف ذلك الانسجام الصوتيّ والإيقاع الداخلي، والتناغم الموجود بين جملها، والسجع غير المقصود في قوله (رأت، سمعت) كل هذا قد أثّر في صياغة الجملة في الحديث الشريف، وقد جاء عفو الخاطر خدمة للمعنى المطلوب.

والحديث موجز العبارة لكنه حين الموازنة بالآية الشريفة نجد فيه إطناباً، وتدرّجاً من الأدنى إلى الأعلى أو من الخاص إلى الأعمّ منه، حيث نفى أولاً المرئيات ثم المسموعات وفي الأخير التوهّم والتخيّل.



([1]) 4/ 1794 كتاب التفسير /باب قوله {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 17.

([2]) ينظر مثلاً: مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها رقم: 2824 (17/ 136 - 137)، والترمذي مع التحفة كتاب التفسير/باب ومن سورة السجدة، رقم: 3197 (5/ 346)، وكتاب التفسير/باب ومن سورة الواقعة رقم:3292 (5/ 400)، وابن ماجه كتاب الزهد/باب صفة الجنة رقم: 4328 (2/ 1447)، والدارمي في الرقاق/باب صفة الجنة رقم 2828 (2/ 432).

([3]) ينظر الأرقام التالية: 3244،4779،4780،7498.

([4]) ينظر: فيض القدير للمناوي 4/ 474.

([5]) التحرير والتنوير 21/ 230

([6]) تفسير ابن كثير 3/ 404.

([7]) شرح الطيبي على المشكاة10/ 248

([8]) إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري 190

([9]) ينظر: سنن أبي داود باب في خلق الجنة والنار رقم 3744 (4/ 236)

([10]) ينظر: فيض القدير 2/ 467، و 4/ 473.

([11]) رقم الحديث: (189) وهي رواية طويلة حول سؤال موسى الرب جل في علاه، وفيه أنه سأل عن أعلاهم منزلة فقال: " أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيديّ، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ومصداقه من كتاب الله {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.

([12]) ينظر: عمدة القاري25/ 160

([13]) 4/ 1794 رقم: 4502،كتاب التفسير /باب قوله {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 17.

([14]) ينظر فتح الباري8/ 655 - 656)، وعمدة القاري19/ 114.

([15]) ينظر: الإيضاح مع البغية4/ 13.

([16]) ينظر: الإيضاح مع البغية 4/ 36.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق